الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ}. يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} إِنِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِمْ وَخَوْفِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مُشْفِقُونَ، فَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِمْ مِنْ ذَلِكَ دَائِبُونَ فِي طَاعَتِهِ جَادُّونَ فِي طَلَبِ مَرْضَاتِهِ {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} يَقُولُ: وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ كِتَابِهِ وَحُجَجِهِ مُصَدِّقُونَ {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} يَقُولُ: وَالَّذِينَ يُخْلِصُونَ لِرَبِّهِمْ عِبَادَتَهُمْ، فَلَا يَجْعَلُونَ لَهُ فِيهَا لِغَيْرِهِ شِرْكًا لِوَثَنٍ، وَلَا لِصَنَمٍ، وَلَا يُرَاءُونَ بِهَا أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ، وَلَكِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أَعْمَالَهُمْ لِوَجْهِهِ خَالِصًا، وَإِيَّاهُ يَقْصِدُونَ بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ دُونَ كُلِّ شَيْءٍ سِوَاهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}. يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} وَالَّذِينَ يُعْطُونَ أَهْلَ سُهْمَانِ الصَّدَقَةِ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ. (مَا آتَوْا) يَعْنِي: مَا أَعْطَوْهُمْ إِيَّاهُ مِنْ صَدَقَةٍ، وَيُؤَدُّونَ حُقُوقَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ إِلَى أَهْلِهَا {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} يَقُولُ: خَائِفَةٌ مِنْ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، فَلَا يُنْجِيهِمْ مَا فَعَلُوا مِنْ ذَلِكَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، فَهُمْ خَائِفُونَ مِنَ الْمَرْجِعِ إِلَى اللَّهِ لِذَلِكَ، كَمَ قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ جَمَعَ إِحْسَانًا وَشَفَقَةً. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبْجَرَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قَالَ: الزَّكَاةُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قَالَ: الْمُؤْمِنُ يُنْفِقُ مَالَهُ وَقَلْبَهُ وَجِلٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قَالَ: يَعْمَلُونَ مَا عَمِلُوا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَلَّا يُنْجِيَهُمْ ذَلِكَ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قَالَ: الْمُؤْمِنُ يُنْفِقُ مَالَهُ وَيَتَصَدَّقُ، وَقَلْبُهُ وَجِلٌ أَنَّهُ إِلَى رَبِّهِ رَاجِعٌ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ جَمَعَ إِحْسَانًا وَشَفَقَةً، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ جَمَعَ إِسَاءَةً وَأَمْنًا، ثُمَّ تَلَا الْحَسَنُ: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} وَقَالَ الْمُنَافِقُ: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} قَالَ: يُعْطُونَ مَا أَعْطَوْا. {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} يَقُولُ: خَائِفَةٌ. حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ، قَالَ: ثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سَالِمٌ الْأَفْطَسُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قَالَ: يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْمَوْتِ، وَهِيَ مِنَ الْمُبَشِّرَاتِ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قَالَ: يُعْطُونَ مَا أَعْطَوْا وَيَعْمَلُونَ مَا عَمِلُوا مِنْ خَيْرٍ، وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ خَائِفَةٌ.
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلُهُ. حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} يَقُولُ: يَعْمَلُونَ خَائِفِينَ. قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قَالَ: يُعْطُونَ مَا أَعْطَوْا؛ فَرَقًا مِنَ اللَّهِ وَوَجَلًا مِنَ اللَّهِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} يُنْفِقُونَ مَا أَنْفَقُوا. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قَالَ: يُعْطُونَ مَا أَعْطَوْا وَيُنْفِقُونَ مَا أَنْفَقُوا وَيَتَصَدَّقُونَ بِمَا تَصَدَّقُوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ؛ اتِّقَاءً لِسُخْطِ اللَّهِ وَالنَّارِ. وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، أَعْنِي عَلَى {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ، وَبِهِ رُسُومُ مَصَاحِفِهِمْ وَبِهِ نَقْرَأُ؛ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ، وَوِفَاقُهُ خَطُّ مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَة رضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي ذَلِكَ، مَا حَدَّثْنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: ثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ. عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي خَلَفٍ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَلَى عَائِشَة، فَسَأَلَهَا عُبَيْدٌ، كَيْفَ نَقْرَأُ هَذَا الْحَرْفَ {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا}؟ فَقَالَتْ: (يُؤْتُونَ مَا آتَوْا). وَكَأَنَّهَا تَأَوَّلَتْ فِي ذَلِكَ: وَالَّذِينَ يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَهُمْ وَجِلُونَ مِنَ اللَّهِ. كَالَّذِي حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا الْحَكَمُ بْنُ بَشِيرٍ، قَالَ: ثَنَا عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «قَالَتْ عَائِشَة: "يَا رَسُولَ اللَّهِ {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} هُوَ الَّذِي يُذْنِبُ الذَّنْبَ وَهُوَ وَجِلٌ مِنْهُ؟ فَقَالَ: لَا وَلَكِنْ مَنْ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَهُوَ وَجِل» ". حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ، «أَنَّ عَائِشَة قالَتْ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ {الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أَهَمَّ الَّذِينَ يُذْنِبُونَ وَهُمْ مُشْفِقُونَ! وَيَصُومُونَ وَهُمْ مُشْفِقُون» "؟ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ، ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: ثَنَا لَيْثٌ، عَنْ مُغِيثٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، عَنْ عَائِشَة، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ {الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قَالَ: فَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا. حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَ، ثَنَا أَبِي، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدٍ، «عَنْ عَائِشَة أنَّهَا قَالَتْ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ {الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أَهُوَ الرَّجُلُ يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ؟ قَالَ: لَا يابْنَةَ أَبِي بَكْرٍ، أَوْ يابْنَةَ الصَّدِيقِ، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلُ مِنْه» ". حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ، ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، وَهُشَيْمٍ عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، جَمِيعًا «عَنْ عَائِشَة أنَّهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يابْنَةَ أَبِي بَكْرٍ، أَوْ يابْنَةَ الصِّدِّيقِ، هُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ، وَيَفْرَقُونَ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُم» ". وَأَنَّ مِنْ قَوْلِهِ: {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} مِنْ أَنَّهُمْ، فَلَمَّا حُذِفَتْ (مِنْ) اتَّصَلَ الْكَلَامُ قَبْلَهَا فَنُصِبَتْ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْخَافِضُ ظَاهِرًا. وَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَذِهِ الصِّفَاتُ صِفَاتُهُمْ، يُبَادِرُونَ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَيَطْلُبُونَ الزُّلْفَةَ عِنْدَ اللَّهِ بِطَاعَتِهِ. كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}. قَالَ: وَالْخَيْرَاتُ: الْمَخَافَةُ وَالْوَجَلُ وَالْإِيمَانُ، وَالْكَفُّ عَنِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، فَذَلِكَ الْمُسَابَقَةُ إِلَى هَذِهِ الْخَيْرَاتِ، قَوْلُهُ: {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} كَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: مَعْنَاهُ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ السَّعَادَةُ، فَذَلِكَ سُبُوقُهُمُ الْخَيْرَاتِ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ، ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} يَقُولُ: سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}، فَتِلْكَ الْخَيْرَاتُ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ بِمَعْنَى: وَهُمْ إِلَيْهَا سَابِقُونَ. وَتَأَوَّلَهُ آخَرُونَ: وَهُمْ مِنْ أَجْلِهَا سَابِقُونَ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، مِنْ أَنَّهُ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ السَّعَادَةُ قَبْلَ مُسَارَعَتِهِمْ فِي الْخَيْرَاتِ، وَلِمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ سَارَعُوا فِيهَا. وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالْكَلَامِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَظْهَرُ مَعْنَيَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِنَا إِذَا وَجَّهْنَا تَأْوِيلَ الْكَلَامِ إِلَى ذَلِكَ، إِلَى تَحْوِيلِ مَعْنَى "اللَّامِ" الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {لَهَا سَابِقُونَ} إِلَى غَيْرِ مَعْنَاهَا الْأَغْلَبِ عَلَيْهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا مَا يَسَعُهَا وَيَصْلُحُ لَهَا مِنَ الْعِبَادَةِ؛ وَلِذَلِكَ كَلَّفْنَاهَا مَا كَلَّفْنَاهَا مِنْ مَعْرِفَةِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَشَرَعْنَا لَهَا مَا شَرَعْنَا مِنَ الشَّرَائِعِ. {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} يَقُولُ: وَعِنْدَنَا كِتَابُ أَعْمَالِ الْخَلْقِ بِمَا عَمِلُوا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، يَنْطِقُ بِالْحَقِّ {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} يَقُولُ: يُبَيِّنُ بِالصِّدْقِ عَمَّا عَمِلُوا مَنْ عَمَلٍ فِي الدُّنْيَا، لَا زِيَادَةَ عَلَيْهِ وَلَا نُقْصَانَ، وَنَحْنُ مُوَفُّو جَمِيعِهِمْ أُجُورَهُمْ، الْمُحْسِنُ مِنْهُمْ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءُ بِإِسَاءَتِهِ {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} يَقُولُ: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، بِأَنْ يُزَادَ عَلَى سَيِّئَاتِ الْمُسِيءِ مِنْهُمْ مَا لَمْ يَعْمَلْهُ فَيُعَاقَبَ عَلَى غَيْرِ جُرْمِهِ، وَيَنْقُصَ الْمُحْسِنَ عَمَّا عَمِلَ مِنْ إِحْسَانِهِ فَيَنْقُصَ عَمَّا لَهُ مِنَ الثَّوَابِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا الْأَمْرُ كَمَا يَحْسَبُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ، مِنْ أَنَّ إِمْدَادَنَاهُمْ بِمَا نَمُدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ، بِخَيْرٍ نَسُوقُهُ بِذَلِكَ إِلَيْهِمْ وَالرِّضَا مِنَّا عَنْهُمْ، وَلَكِنَّ قُلُوبَهُمْ فِي غَمْرَةِ عَمًى عَنْ هَذَا الْقُرْآنِ. وَعَنَى بِالْغَمْرَةِ: مَا غَمَرَ قُلُوبَهُمْ فَغَطَّاهَا عَنْ فَهْمِ مَا أَوْدَعَ اللَّهُ كِتَابَهُ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ وَالْحُجَجِ. وَعَنَى بِقَوْلِهِ: (مِنْ هَذَا) مِنَ الْقُرْآنِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} قَالَ: فِي عَمًى مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} قَالَ: مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُ: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ أَعْمَالٌ لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ مِنَ الْمَعَاصِي. (مِنْ دُونِ ذَلِكَ) يَقُولُ: مِنْ دُونِ أَعْمَالِ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَأَهْلِ التَّقْوَى وَالْخَشْيَةِ لَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} قَالَ: الْخَطَايَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} قَالَ: الْحَقُّ. حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: ثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} قَالَ: خَطَايَا مِنْ دُونِ ذَلِكَ الْحَقِّ. قَالَ ثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، فِي قَوْلِهِ: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ}... الْآيَةَ، قَالَ: أَعْمَالٌ دُونَ الْحَقِّ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ {الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ {ثُمَّ قَالَ لِلْكُفَّارِ: (} بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ {) قَالَ: مِنْ دُونِ الْأَعْمَالِ الَّتِي مِنْهَا قَوْلُهُ: (} مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} وَالَّذِينَ، وَالَّذِينَ. حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: أَعْمَالٌ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوهَا. حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: ثَنَا زَيْدُ بْنُ أَبِي الزَّرْقَاءِ، عَنْ حَمَّادٍِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، قَالَ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} قَالَ: أَعْمَالٌ لَمْ يَعْمَلُوهَا سَيَعْمَلُونَهَا. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} قَالَ: لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَسْتَوْفِيَ بَقِيَّةَ عَمَلِهِ، وَيُصَلِّيَ بِهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} قَالَ: أَعْمَالٌ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوهَا. حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} قَالَ: أَعْمَالٌ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ مِنْ قُرَيْشٍ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ، إِلَى أَنْ يُؤْخَذَ أَهْلُ النَّعْمَةِ وَالْبَطَرِ مِنْهُمْ بِالْعَذَابِ. كَمَا: حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ}، قَالَ: الْمُتْرَفُونَ: الْعُظَمَاءُ. {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} يَقُولُ: فَإِذَا أَخَذْنَاهُمْ بِهِ جَأَرُوا، يَقُولُ: ضَجُّوا وَاسْتَغَاثُوا مِمَّا حَلَّ بِهِمْ مِنْ عَذَابِنَا، وَلَعَلَّ الْجُؤَارَ: رَفْعُ الصَّوْتِ، كَمَا يَجْأَرُ الثَّوْرُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: يُِرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ الْمَلِي *** كَ طَوْرًا سِجُودًا وَطَوْرًا جُِؤَارَا وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} يَقُولُ: يَسْتَغِيثُونَ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَا ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَرْدَدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} قَالَ: بِالسُّيُوفِ يَوْمَ بَدْرٍ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، فِي قَوْلِهِ: {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} قَالَ: يَجْزَعُونَ. قَالَ: ثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ} قَالَ: عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ. {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} قَالَ: الَّذِينَ بِمَكَّةَ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ} يَعْنِي أَهْلَ بَدْرٍ، أَخَذَهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ يَوْمَ بَدْرٍ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ زَيْدٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} قَالَ: يَجْزَعُونَ. وَقَوْلُهُ: {لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ} يَقُولُ: لَا تَضِجُّوا وَتَسْتَغِيثُوا الْيَوْمَ وَقَدْ نَزَلَ بِكُمُ الْعَذَابَ الَّذِي لَا يُدْفَعُ عَنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَإِنَّ ضَجِيجَكُمْ غَيْرُ نَافِعِكُمْ وَلَا دَافِعٍ عَنْكُمْ شَيْئًا مِمَّا قَدْ نَزَلَ بِكُمْ مِنْ سُخْطِ اللَّهِ. {إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ} يَقُولُ: إِنَّكُمْ مِنْ عَذَابِنَا الَّذِي قَدْ حَلَّ بِكُمْ لَا تُسْتَنْقَذُونَ، وَلَا يُخَلِّصُكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: {لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ} لَا تَجْزَعُوا الْيَوْمَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: {لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ} لَا تَجْزَعُوا الْآنَ حِينَ نَزَلَ بِكُمُ الْعَذَابَ، إِنَّهُ لَا يَنْفَعُكُمْ، فَلَوْ كَانَ هَذَا الْجَزَعُ قَبْلُ نَفَعَكُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ: لَا تَضِجُّوا الْيَوْمَ وَقَدْ نَزَلَ بِكُمْ سُخْطُ اللَّهِ وَعَذَابُهُ، بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَاسْتَوْجَبْتُمُوهُ بِكُفْرِكُمْ بِآيَاتِ رَبِّكُمْ. {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} يَعْنِي: آيَاتُ كِتَابِ اللَّهِ، يَقُولُ: كَانَتْ آيَاتُ كِتَابِي تُقْرَأُ عَلَيْكُمْ فَتُكَذِّبُونَ بِهَا وَتَرْجِعُونَ مُوَلَّيْنَ عَنْهَا إِذَا سَمِعْتُمُوهَا، كَرَاهِيَةً مِنْكُمْ لِسَمَاعِهَا. وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ رَجَعَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ: نَكَصَ فَلَانٌ عَلَى عَقِبِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} قَالَ: تَسْتَأْخِرُونَ. حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} يَقُولُ: تُدْبِرُونَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ. قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: (تَنْكِصُونَ) قَالَ: تَسْتَأْخِرُونَ. وَقَوْلُهُ: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} يَقُولُ: مُسْتَكْبِرِينَ بِحَرَمِ اللَّهِ، يَقُولُونَ: لَا يَظْهَرُ عَلَيْنَا فِيهِ أَحَدٌ، لِأَنَّا أَهْلُ الْحَرَمِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} يَقُولُ: مُسْتَكْبِرِينَ بِحَرَمِ الْبَيْتِ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ عَلَيْنَا فِيهِ أَحَدٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} قَالَ: بِمَكَّةَ الْبَلَدِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا هَوْذَةُ، قَالَ: ثَنَا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} قَالَ: مُسْتَكْبِرِينَ بِحَرَمِي. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَصِينٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} بِالْحَرَمِ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} قَالَ: مُسْتَكْبِرِينَ بِالْحَرَمِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلُهُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} قَالَ: بِالْحَرَمِ. وَقَوْلُهُ: (سَامِرًا) يَقُولُ: تَسْمُرُونَ بِاللَّيْلِ. وَوُحِّدَ قَوْلَهُ: (سَامِرًا) وَهُوَ بِمَعْنَى السُّمَّارِ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ مَوْضِعَ الْوَقْتِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَتَهْجُرُونَ لَيْلًا فَوُضِعَ السَّامِرُ مَوْضِعَ اللَّيْلِ، فَوُحِّدَ لِذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ يَقُولُ: وُحِّدَ وَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ، كَمَا قِيلَ: طِفْلٌ فِي مَوْضِعِ أَطْفَالٍ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ عَنْ صِحَّةٍ مَا قُلْنَا فِي أَنَّهُ وُضِعَ مَوْضِعَ الْوَقْتِ فَوُحِّدَ لِذَلِكَ، قَوْلُ الشَّاعِرِ. مِنْ دُونِهِمْ إِنَّ جِئْتَهُمْ سَمَرًا *** عَزْفُ الْقِيِانِ وَمَجِْلِسٌ غَمِْرُ فَقَالَ: سَمَرًا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: إِنْ جِئْتَهُمْ لَيْلًا وَهُمْ يَسْمُرُونَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: (سَامِرًا). وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: (سَامِرًا) يَقُولُ: يَسْمُرُونَ حَوْلَ الْبَيْتِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (سَامِرًا) قَالَ: مَجْلِسًا بِاللَّيْلِ. حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (سَامِرًا) قَالَ: مَجَالِسُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَصِينٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: (سَامِرًا) قَالَ: تَسْمُرُونَ بِاللَّيْلِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: (سَامِرًا) قَالَ: كَانُوا يُسَمِّرُونَ لَيْلَتَهُمْ وَيَلْعَبُونَ: يَتَكَلَّمُونَ بِالشِّعْرِ وَالْكِهَانَةِ وَبِمَا لَا يَدْرُونَ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: (سَامِرًا) قَالَ: يَعْنِي سَمَرَ اللَّيْلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: (سَامِرًا) يَقُولُ: سَامِرًا مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ آمِنًا لَا يَخَافُ، كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ أَهْلُ الْحَرَمِ، لَا يَخَافُونَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: (سَامِرًا) يَقُولُ: سَامِرًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ آمِنًا لَا يَخَافُ، قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ أَهْلُ الْحَرَمِ لَا نَخَافُ. وَقَوْلُهُ: (تَهْجُرُونَ) اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَتِهِ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ: (تَهْجُرُونَ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْجِيمِ. وَلِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَجْهَانِ مِنَ الْمَعْنَى: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ عَنَى أَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْقُرْآنِ أَوِ الْبَيْتِ، أَوْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفْضِهُ. وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ عَنَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ شَيْئًا مِنَ الْقَوْلِ كَمَا يَهْجُرُ الرَّجُلُ فِي مَنَامِهِ، وَذَلِكَ إِذَا هَذَى؛ فَكَأَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا مَعْنَى لَهُ مِنَ الْقَوْلِ، وَذَلِكَ أَنْ يَقُولُوا فِيهِ بَاطِلًا مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي لَا يَضُرُّهُ. وَقَدْ جَاءَ بِكِلَا الْقَوْلَيْنِ التَّأْوِيلُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: كَانُوا يُعْرِضُونَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالْحَقِّ وَيَهْجُرُونَهُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ ثَنْيَ عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: (تَهْجُرُونَ) قَالَ: يَهْجُرُونَ ذِكْرَ اللَّهِ وَالْحَقِّ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ السَّدِّي، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، فِي قَوْلِهِ: {سَامِرًا تَهْجُرُونَ} قَالَ: السَّبُّ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ الْبَاطِلَ وَالسَّيِّئَ مِنَ الْقَوْلِ فِي الْقُرْآنِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَصِينٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: (تَهْجُرُونَ) قَالَ: يَهْجُرُونَ فِي الْبَاطِلِ. قَالَ: ثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَصِينٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ حَبِيرٍ: {سَامِرًا تَهْجُرُونَ} قَالَ: يُسَمِّرُونَ بِاللَّيْلِ يَخُوضُونَ فِي الْبَاطِلِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (تَهْجُرُونَ) قَالَ: بِالْقَوْلِ السَّيِّئِ فِي الْقُرْآنِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلُهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: (تَهْجُرُونَ) قَالَ: الْهَذَيَانُ؛ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يُرِيدُ، وَلَا يَعْقِلُ كَالْمَرِيضِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَدْرِي. قَالَ: كَانَ أُبَيٌّ يَقْرَؤُهَا: (سَامِرًا تَهْجُرُونَ).وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ: (سَامِرًا تُهْجِرُونَ) بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ. وَمِمَّنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ مِنْ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ: نَافِعُ بْنُ أَبِي نَعِيمٍ، بِمَعْنَى: يُفْحِشُونَ فِي الْمَنْطِقِ، وَيَقُولُونَ الْخَنَا، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَهْجَرَ الرَّجُلُ: إِذَا أَفْحَشَ فِي الْقَوْلِ. وَذَكَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسُبُّونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (تُهْجِرُونَ) قَالَ: تَقُولُونَ هُجْرًا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ، عَنْ أَبِي نَهِيكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّهُ قَرَأَ: (سَامِرًا تَهْجُرُونَ): أَيْ تَسُبُّونَ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا هَوْذَةُ، قَالَ: ثَنَا عَوْنٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: (سَامِرًا تُهْجِرُونَ) رَسُولِي. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: (تُهْجِرُونَ) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: (تُهْجِرُونَ) يَقُولُ: يَقُولُونَ سُوءًا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: (تُهْجِرُونَ) كِتَابَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: (تُهْجِرُونَ) يَقُولُ: يَقُولُونَ الْمُنْكَرَ وَالْخَنَا مِنَ الْقَوْلِ، كَذَلِكَ هُجْرُ الْقَوْلِ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا الْقِرَاءَةُ الَّتِي عَلَيْهَا قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ، وَهِيَ فَتْحُ التَّاءِ وَضَمُّ الْجِيمِ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَفَلَمْ يَتَدَبَّرُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ تَنِْزِيلَ اللَّهِ وَكَلَامِهِ، فَيَعْلَمُوا مَا فِيهِ مِنَ الْعِبَرِ، وَيَعْرِفُوا حُجَجَ اللَّهِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا عَلَيْهِ فِيهِ؟ {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ}؟ يَقُولُ: أَمْ جَاءَهُمْ أَمْرُ مَا لَمْ يَأْتِ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ أَسْلَافِهِمْ، فَاسْتَكْبَرُوا ذَلِكَ وَأَعْرَضُوا، فَقَدْ جَاءَتُْ الرُّسُلُ مَنْ قَبْلِهِمْ، وَأَنْزَلْتُ مَعَهُمُ الْكُتُبَ. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ "أَمْ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَعْنَى: بَلْ، فَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ: أَفَلَمْ يَدَبَّرُوا الْقَوْلَ؟ بَلْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ، فَتَرَكُوا لِذَلِكَ التَّدَبُّرِ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِيمَنْ سَلَفَ مِنْ آبَائَهُمْ ذَلِكَ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي نَحْوِ هَذَا الْقَوْلِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} قَالَ: لَعَمْرِي لَقَدْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ، وَلَكِنْ أَوْ لَمْ يَأْتِهِمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ. وَقَوْلُهُ: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَمْ لَمْ يَعْرِفْ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ مُحَمَّدًا، وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ، يَقُولُ: فَيُنْكِرُوا قَوْلَهُ، أَوْ لَمْ يَعْرِفُوهُ بِالصِّدْقِ، وَيَحْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَكَيْفَ يُكَذِّبُونَهُ وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ فِيهِمْ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ؟ ! {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} يَقُولُ: أَيَقُولُونَ بِمُحَمَّدٍ جُنُونٌ، فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا مَعْنَى لَهُ وَلَا يَفْهَمُ وَلَا يَدْرِي مَا يَقُولُ؟ ! {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَإِنْ يَقُولُوا ذَلِكَ فَكَذِبُهُمْ فِي قَيْلِهِمْ ذَلِكَ وَاضِحٌ بَيِّنٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَجْنُونَ يَهْذِي فَيَأْتِي مِنَ الْكَلَامِ بِمَا لَا مَعْنَى لَهُ، وَلَا يَعْقِلُ وَلَا يَفْهَمُ، وَالَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ هُوَ الْحِكْمَةُ الَّتِي لَا أَحْكَمَ مِنْهَا وَالْحَقُّ الَّذِي لَا تَخْفَى صِحَّتُهُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ صَحِيحَةٍ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ كَلَامُ مَجْنُونٍ؟ وَقَوْلُهُ: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا بِهَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا مُحَمَّدًا بِالصِّدْقِ وَلَا أَنَّ مُحَمَّدًا عِنْدَهُمْ مَجْنُونٌ، بَلْ قَدْ عَلِمُوهُ صَادِقًا مُحِقًّا فِيمَا يَقُولُ وَفِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لِلْإِذْعَانِ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ وَلِأَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ سَاخِطُونَ؛ حَسَدًا مِنْهُمْ لَهُ وَبَغْيًا عَلَيْهِ وَاسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَوْ عَمَلَ الرَّبُّ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِمَا يَهْوَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ وَأَجْرَى التَّدْبِيرَ عَلَى مَشِيئَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ وَتَرَكَ الْحَقَّ الَّذِي هُمْ لَهُ كَارِهُونَ، لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ وَالصَّحِيحَ مِنَ التَّدْبِيرِ وَالْفَاسِدَ، فَلَوْ كَانَتِ الْأُمُورُ جَارِيَةً عَلَى مَشِيئَتِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ مَعَ إِيثَارِ أَكْثَرِهِمُ الْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ، لَمْ تَقِرَّ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَامَ بِالْحَقِّ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: ثَنَا السُّدِّيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} قَالَ: اللَّهُ. قَالَ: ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} قَالَ: الْحَقُّ: هُوَ اللَّهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} قَالَ: الْحَقُّ: اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ الذَّكْرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ بَيَانُ الْحَقِّ لَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ مَنْ هَذَا الْقُرْآنِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} يَقُولُ: بَيَّنَا لَهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِشَرَفِهِمْ؛ وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ كَانَ شَرَفًا لَهُمْ، لِأَنَّهُ نَزَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَأَعْرَضُوا عَنْهُ وَكَفَرُوا بِهِ. وَقَالُوا: ذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِ {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ مُتَقَارِبَا الْمَعْنَى؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ بَيَانًا بَيَّنَ فِيهِ مَا لِخَلْقِهِ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ ذِكْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْمِهِ وَشَرَفٌ لَهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَمْ تَسْأَلُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ قَوْمِكَ خَرَاجًا، يَعْنِي أَجْرًا عَلَى مَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ النَّصِيحَةِ وَالْحَقِّ؛ {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} فَأَجْرُ رَبِّكَ عَلَى نَفَاذِكَ لِأَمْرِهِ، وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَجْرًا، قَالَ لَهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ لَهُ، وَأَمَرَهُ بِقِيلِهِ لَهُمْ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: أَمْ تَسْأَلُهُمْ عَلَى مَا جِئْتَهُمْ بِهِ أَجْرًا، فَنَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ إِذَا تَلَوْتَهُ عَلَيْهِمْ، مُسْتَكْبِرِينَ بِالْحَرَمِ، فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} قَالَ: أَجْرًا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الْحَسَنِ، مِثْلُهُ. وَأَصْلُ الْخَرَاجِ وَالْخَرْجِ: مَصْدَرَانِ لَا يَجْمَعَانِ. وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} يَقُولُ: وَاللَّهُ خَيْرُ مَنْ أَعْطَى عِوَضًا عَلَى عَمَلٍ وَرَزَقَ رِزْقًا. وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ لِتَدْعُوَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ الْقَاصِدُ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالَّذِينَ لَا يُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَقِيَامِ السَّاعَةِ، وَمُجَازَاةِ اللَّهِ عِبَادَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ؛ {عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} يَقُولُ: عَنْ مَحَجَّةِ الْحَقِّ وَقَصْدِ السَّبِيلِ، وَذَلِكَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ الْعَادِلُونَ. يُقَالُ مِنْهُ: قَدْ نَكَبَ فَلَانٌ عَنْ كَذَا: إِذَا عَدَلَ عَنْهُ، وَنَكَبَ عَنْهُ: أَيْ عَدَلَ عَنْهُ. وَبِنَحْوِ قَوْلِنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} قَالَ: الْعَادِلُونَ. حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} يَقُولُ: عَنِ الْحَقِّ عَادِلُونَ. وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ} يَقُولُ تَعَالَى: وَلَوْ رَحِمْنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَرَفَعْنَا عَنْهُمْ مَا بِهِمْ مِنَ الْقَحْطِ وَالْجَدْبِ وَضُرِّ الْجُوعِ وَالْهُزَالِ؛ {لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ} يَعْنِي فِي عُتُوِّهِمْ وَجُرْأَتِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ. (يَعْمَهُونَ) يَعْنِي: يَتَرَدَّدُونَ. كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ} قَالَ: الْجُوعُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدْ أَخَذَنَا هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِعَذَابِنَا، وَأَنْزَلْنَا بِهِمْ بَأْسَنَا، وَسُخْطَنَا وَضَيَّقْنَا عَلَيْهِمْ مَعَايِشَهُمْ، وَأَجْدَبْنَا بِلَادَهُمْ، وَقَتَلْنَا سُرَاتَهُمْ بِالسَّيْفِ. {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ} يَقُولُ: فَمَا خَضَعُوا لِرَبِّهِمْ فَيَنْقَادُوا لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَيُنِيبُوا إِلَى طَاعَتِهِ {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} يَقُولُ: وَمَا يَتَذَلَّلُونَ لَهُ. وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَخَذَ اللَّهُ قُرَيْشًا بِسِنِي الْجَدْبِ، إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذِكْرُ الْخَبَرِ فِي ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ، فَقَدْ أَكَلْنَا الْعِلْهِزَ! يَعْنِي الْوَبَرَ وَالدَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}»). حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ، عَنْ عِلْبَاءَ بْنِ أَحْمَرَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ ابْنَ أَثَالٍ الْحَنَفِيَّ، لِمَا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَسِيرٌ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَلَحِقَ بِمَكَّةَ، فَحَالَ بَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ وَبَيْنَ الْمِيرَةِ مَنْ الْيَمَامَةِ، حَتَّى أَكَلَتْ قُرَيْشٌ الْعِلْهِزَ، فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَلَيْسَ تَزْعُمُ بِأَنَّكَ بُعِثْتَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ؟ فَقَالَ: "بَلَى!" فَقَالَ: قَدْ قَتَلْتَ الْآبَاءَ بِالسَّيْفِ وَالْأَبْنَاءَ بِالْجُوعِ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ}...») الْآيَةَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا الْحَكَمُ بْنُ بَشِيرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: إِذَا أَصَابَ النَّاسَ مِنْ قِبَلِ الشَّيْطَانِ بَلَاءٌ، فَإِنَّمَا هِيَ نِقْمَةٌ، فَلَا تَسْتَقْبِلُوا نِقْمَةَ اللَّهِ بِالْحَمِيَّةِ، وَلَكِنِ اسْتَقْبَلُوهَا بِالِاسْتِغْفَارِ، وَتَضَرَّعُوا إِلَى اللَّهِ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} قَالَ: الْجُوعُ وَالْجَدْبُ. {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ} فَصَبَرُوا {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابَ الْقِتَالِ، فَقُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ، قَالَ: ثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} قَدْ مَضَى، كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} قَالَ: يَوْمُ بَدْرٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابَ الْمَجَاعَةِ وَالضُّرِّ، وَهُوَ الْبَابُ ذُو الْعَذَابِ الشَّدِيدِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} قَالَ: لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ الْجُوعُ، وَمَا قَبْلَهَا مِنَ الْقِصَّةِ لَهُمْ أَيْضًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَمَا قَبْلَهَا أَيْضًا. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ: أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، لِصِحَّةِ الْخَبَرِ الَّذِي ذَكَّرْنَاهُ قَبْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ الْمَجَاعَةِ الَّتِي أَصَابَتْ قُرَيْشًا؛ بِدُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَأَمْرِ ثُمَامَةَ بْنِ أَثَالٍ، وَذَلِكَ لَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ. وَقَوْلُهُ: {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} يَقُولُ: إِذَا هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ فِيمَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَذَابِ حَزْنَى نَادِمُونَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُمْ، فِي تَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، فِي حِينٍ لَا يَنْفَعُهُمُ النَّدَمُ وَالْحُزْنُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاللَّهُ الَّذِي أَحْدَثَ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ السَّمْعَ الَّذِي تَسْمَعُونَ بِهِ، وَالْأَبْصَارَ الَّتِي تُبْصِرُونَ بِهَا، وَالْأَفْئِدَةَ الَّتِي تَفْقَهُونَ بِهَا، فَكَيْفَ يَتَعَذَّرُ عَلَى مَنْ أَنْشَأَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً إِعَادَتُهُ بَعْدَ عَدَمِهِ وَفَقْدِهِ، وَهُوَ الَّذِي يُوجِدُ ذَلِكَ كُلَّهُ إِذَا شَاءَ وَيُفْنِيهِ إِذَا أَرَادَ (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) يَقُولُ: تَشْكُرُونَ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ خَيْرَ اللَّهِ مِنْ عَطَائِكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِكُمْ، ثُمَّ تُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاللَّهُ الَّذِي يُحْيِي خَلْقَهُ يَقُولُ: يَجْعَلُهُمْ أَحْيَاءً بَعْدَ أَنْ كَانُوا نُطَفًا أَمْوَاتًا، بِنَفْخِ الرُّوحِ فِيهَا بَعْدَ التَّارَّاتِ الَّتِي تَأْتِي عَلَيْهَا، (وَيُمِيتُ) يَقُولُ: وَيُمِيتُهُمْ بَعْدَ أَنْ أَحْيَاهُمْ {وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} يَقُولُ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ مُخْتَلِفِينَ، كَمَا يُقَالُ فِي الْكَلَامِ: لَكَ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ، بِمَعْنَى: إِنَّكَ تَمُنُّ وَتَفْضُلُ. وَقَوْلُهُ: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) يَقُولُ: أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَيُّهَا النَّاسُ، أَنَّ الَّذِي فَعَلَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ، لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ إِحْيَاءُ الْأَمْوَاتِ بَعْدَ فَنَائِهِمْ، وَإِنْشَاءُ مَا شَاءَ إِعْدَامَهُ بَعْدَ إِنْشَائِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا اعْتَبَرَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، و لَا تَدَبَّرُوا مَا احْتَجَّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُجَجِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ، عَلَى فِعْلِ كُلِّ مَا يَشَاءُ، وَلَكِنْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ أَسْلَافُهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلَهَا قَبْلَهُمْ: {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا} يَقُولُ: أَئِذَا مِتْنَا وَعُدْنَا تُرَابًا قَدْ بَلِيَتْ أَجْسَامُنَا، وَبَرَأَتْ عِظَامُنَا مِنْ لُحُومِنَا {أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} يَقُولُ: إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ مِنْ قُبُورِنَا أَحْيَاءً، كَهَيْئَتِنَا قَبْلَ الْمَمَاتِ؟ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ غَيْرُ كَائِنٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالُوا: لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا الْوَعْدَ الَّذِي تَعِدُنَا يَا مُحَمَّدُ، وَوَعَدَ آبَاءَنَا مَنْ قَبْلَنَا قَوْمٌ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ لِلَّهِ رُسُلٌ مَنْ قَبْلِكَ، فَلَمْ نَرَهُ حَقِيقَةً (إِنْ هَذَا) يَقُولُ: مَا هَذَا الَّذِي تَعِدُنَا مِنَ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ (إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) يَقُولُ: مَا سَطَّرَهُ الْأَوَّلُونَ فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْأَخْبَارِ، الَّتِي لَا صِحَّةَ لَهَا و لَا حَقِيقَةَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْآخِرَةِ مِنْ قَوْمِكَ: لِمَنْ مُلْكُ الْأَرْضِ وَمِنْ فِيهَا مِنَ الْخَلْقِ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَنْ مَالِكُهَا؟ ثُمَّ أَعْلَمَهُ أَنَّهُمْ سَيُقِرُّونَ بِأَنَّهَا لِلَّهِ مِلْكًا، دُونَ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ غَيْرَهُ (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) يَقُولُ: فَقُلْ لَهُمْ إِذَا أَجَابُوكَ بِذَلِكَ كَذَلِكَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، فَتَعْلَمُونَ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ ذَلِكَ ابْتِدَاءً فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَائِهِمْ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ وَإِعَادَتِهِمْ خَلْقًا سَوِيًّا بَعْدَ فَنَائِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْمُحِيطِ بِذَلِكَ؟ سَيَقُولُونَ: ذَلِكَ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَهُوَ رَبُّهُ، فَقُلْ لَهُمْ: أَفَلَا تَتَّقُونَ عِقَابَهُ عَلَى كُفْرِكُمْ بِهِ وَتَكْذِيبِكُمْ خَبَرَهُ وَخَبَرَ رَسُولِهِ؟ وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} سِوَى أَبِي عَمْرٍو، فَإِنَّهُ خَالَفَهُمْ فَقَرَأَهُ: "سَيَقُولُونَ اللَّهَ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَفِي الْآخَرِ الَّذِي بَعْدَهُ إِتْبَاعًا لِخَطِّ الْمُصْحَفِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي مَصَاحِفِ الْأَمْصَارِ، إِلَّا فِي مُصْحَفِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَإِنَّهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالْأَلِفِ، فَقَرَءُوا بِالْأَلِفِ كُلَّهَا اتِّبَاعًا لِخَطِّ مُصْحَفِهِمْ، فَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوهُ بِالْأَلِفِ فَلَا مُؤْنَةَ فِي قِرَاءَتِهِمْ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ أَجْرَوُا الْجَوَابَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَرَدُّوا مَرْفُوعًا عَلَى مَرْفُوعٍ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى قِرَاءَتِهِمْ: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ رَبُّ ذَلِكَ اللَّهُ، فَلَا مُؤْنَةَ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ فِي هَذَا، وَالَّذِي يَلِيهِ بِغَيْرِ أَلْفٍ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: مَعْنَى قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ: لِمَنِ السَّمَاوَاتُ؟ لِمَنْ مُلْكُ ذَلِكَ؟ فَجُعِلَ الْجَوَابُ عَلَى الْمَعْنَى، فَقِيلَ: لِلَّهِ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَنْ مُلْكِ ذَلِكَ لِمَنْ هُوَ؟ قَالُوا: وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ قَائِلٍ لِرَجُلٍ: مَنْ مَوْلَاكَ؟ فَيُجِيبُ الْمُجِيبُ عَنْ مَعْنَى مَا سُئِلَ، فَيَقُولُ: أَنَا لِفُلَانٍ؛ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ لِذَلِكَ مِنَ الْجَوَابِ مَا هُوَ مَفْهُومٌ بُقُولِهِ: مَوْلَايَ فَلَانٌ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَذْكُرُ أَنَّ بَعْضَ بَنِي عَامِرٍ أَنْشَدَهُ: وَأَعْلَمُ أَنَّنِي سَأَكُونُ رَمْسًا *** إِذَا سَارَ النَّوَاجِعُ لَا يَسِيرُ فَقَالَ السَّائِلُونَ لِمَنْ حَفَرْتُمْ؟ فَقِالَ الْمُخِْبِرُونَ لَهُِمْ وَزِيِرُ فَأَجَابَ الْمَخْفُوضُ بِمَرْفُوعٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: فَقَالَ السَّائِلُونَ: مَنِ الْمَيِّتُ؟ فَقَالَ الْمُخْبِرُونَ: الْمَيِّتُ وَزِيرٌ. فَأَجَابُوا عَنِ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ قَدْ قَرَأَ بِهِمَا عُلَمَاءُ مِنَ الْقُرَّاءِ، مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، غَيْرَ أَنِّي مَعَ ذَلِكَ أَخْتَارُ قِرَاءَةَ جَمِيعِ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَلِفٍ؛ لِإِجْمَاعِ خُطُوطِ مَصَاحِفِ الْأَمْصَارِ عَلَى ذَلِكَ، سِوَى خَطِّ مُصْحَفِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ: مَنْ بِيَدِهِ خَزَائِنُ كُلِّ شَيْءٍ؟ كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ {مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} قَالَ: خَزَائِنُ كُلِّ شَيْءٍ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} قَالَ: خَزَائِنُ كُلِّ شَيْءٍ. وَقَوْلُهُ {وَهُوَ يُجِيرُ} مَنْ أَرَادَ مِمَّنْ قَصَدَهُ بِسُوءٍ، {وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} يَقُولُ: وَلَا أَحَدَ يَمْتَنِعُ مِمَّنْ أَرَادَهُ هُوَ بِسُوءٍ، فَيَدْفَعُ عَنْهُ عَذَابَهُ وَعِقَابَهُ (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) مَنْ ذَلِكَ صِفَتُهُ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنْ مَلَكُوتَ كُلِّ شَيْءٍ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا لِلَّهِ، فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} يَقُولُونَ: فَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ تُصْرَفُونَ عَنِ التَّصْدِيقِ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَالْإِقْرَارِ بِأَخْبَارِهِ وَأَخْبَارِ رَسُولِهِ، وَالْإِيمَانِ بِأَنَّ اللَّهَ الْقَادِرَ عَلَى كُلِّ مَا يَشَاءُ، وَعَلَى بَعْثِكُمْ أَحْيَاءً بَعْدَ مَمَاتِكُمْ، مَعَ عِلْمِكُمْ بِمَا تَقُولُونَ مِنْ عَظِيمِ سُلْطَانِهِ وَقُدْرَتِهِ؟ ! وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ يَقُولُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ (تُسْحَرُونَ) مَا حَدَّثَنِي بِهِ عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} يَقُولُ: تَكْذِبُونَ. وَقَدْ بَيَّنْتُ فِيمَا مَضَىالسِّحْرَتَعْرِيفُهُ وَحُكْمُهُ: أَنَّهُ تَخْيِيلُ الشَّيْءِ إِلَى النَّاظِرِ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ مِنْ هَيْئَتِهِ، فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} إِنَّمَا مَعْنَاهُ: فَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ يُخَيَّلُ إِلَيْكُمُ الْكَذِبُ حَقًّا: وَالْفَاسِدُ صَحِيحًا، فَتُصْرَفُونَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالْحَقِّ الَّذِي يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ رَسُولَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. يَقُولُ: مَا الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ، مِنْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَأَنَّ الْآلِهَةَ وَالْأَصْنَامَ آلِهَةٌ دُونَ اللَّهِ {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ} الْيَقِينِ، وَهُوَ الدِّينُ الَّذِي ابْتَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ الْإِسْلَامُ، وَلَا يُعْبَدُ شَيْءٌ سِوَى اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) يَقُولُ: وَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَكَاذِبُونَ فِيمَا يُضِيفُونَ إِلَى اللَّهِ، وَيَنْحَلُونَهُ مِنَ الْوَلَدِ وَالشَّرِيكِ، وَقَوْلُهُ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا لِلَّهِ مِنْ وَلَدٍ، وَلَا كَانَ مَعَهُ فِي الْقَدِيمِ، وَلَا حِينَ ابْتَدَعَ الْأَشْيَاءَ مَنْ تَصْلُحُ عِبَادَتُهُ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ فِي الْقَدِيمِ أَوْ عِنْدَ خَلْقِهِ الْأَشْيَاءَ مَنْ تَصْلُحُ عِبَادَتُهُ {مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ} يَقُولُ: إِذَنْ لَاعْتَزَلَ كُلُّ إِلَهٍ مِنْهُمْ (بِمَا خَلَقَ) مِنْ شَيْءٍ، فَانْفَرَدَ بِهِ، وَلَتَغَالَبُوا، فَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَغَلَبَ الْقَوِيُّ مِنْهُمُ الضَّعِيفَ؛ لِأَنَّ الْقَوِيَّ لَا يَرْضَى أَنْ يَعْلُوَهُ ضَعِيفٌ، وَالضَّعِيفُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا، فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَبْلَغَهَا مِنْ حَجَّةٍ وَأَوْجَزَهَا، لِمَنْ عَقَلَ وَتَدَبَّرَ. وَقَوْلُهُ: {إِذًا لَذَهَبَ} جَوَابٌ لِمَحْذُوفٍ، وَهُوَ: لَوْ كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ، إِذَنْ لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ، اجْتُزِئَ بِدَلَالَةِ مَا ذَكَرَ عَلَيْهِ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ؛ تَنِْزِيهًا لِلَّهِ عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَنَّ لَهُ وَلَدًا، وَعَمَّا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ لَهُ شَرِيكًا، أَوْ أَنَّ مَعَهُ فِي الْقِدَمِ إِلَهًا يُعْبَدُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَقَوْلُهُ: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هُوَ عَالَمٌ مَا غَابَ عَنْ خَلْقِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ، فَلَمْ يَرَوْهُ وَلَمْ يُشَاهِدُوهُ، وَمَا رَأَوْهُ وَشَاهَدُوهُ، إِنَّمَا هَذَا مِنَ اللَّهِ خَبَرٌ عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَعَبَدُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، أَنَّهُمْ فِيمَا يَقُولُونَ وَيَفْعَلُونَ مُبْطِلُونَ مُخْطِئُونَ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا يَقُولُونَ مِنْ قَوْلٍ فِي ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ، بَلْ عَنْ جَهْلٍ مِنْهُمْ بِهِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ بِقَدِيمِ الْأُمُورِ وَبِحَدِيثِهَا، وَشَاهِدِهَا وَغَائِبِهَا عَنْهُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَخَبَرُهُ هُوَ الْحَقُّ دُونَ خَبَرِهِمْ وَقَالَ: (عَالِمُ الْغَيْبِ) فَرُفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، بِمَعْنَى: هُوَ عَالَمُ الْغَيْبِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: (فَتَعَالَى) كَمَا يُقَالُ: مَرَرْتُ بِأَخِيكَ الْمُحْسِنِ فَأَحْسَنْتُ إِلَيْهِ، فَتَرْفَعُ الْمُحْسِنَ إِذَا جَعَلْتَ فَأَحْسَنْتَ إِلَيْهِ بِالْفَاءِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ: مَرَرْتُ بِأَخِيكَ هُوَ الْمُحْسِنُ، فَأَحْسَنْتُ إِلَيْهِ. وَلَوْ جُعِلَ الْكَلَامُ بِالْوَاوِ فَقِيلَ: وَأَحْسَنْتُ إِلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ وَجْهُ الْكَلَامِ فِي الْمُحْسِنِ إِلَّا الْخَفْضَ عَلَى النَّعْتِ لِلْأَخِ، وَلِذَلِكَ لَوْ جَاءَ (فَتَعَالَى) بِالْوَاو كَانَ وَجْهُ الْكَلَامِ فِي (عَالِمِ الْغَيْبِ) الْخَفْضَ عَلَى الِاتِّبَاعِ لِإِعْرَابِ اسْمِ اللَّهِ، وَكَانَ يَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: سُبْحَانَ اللَّهِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَتَعَالَى! فَيَكُونُ قَوْلُهُ (وَتَعَالَى) حِينَئِذٍ مَعْطُوفًا عَلَى سُبْحَانَ اللَّهِ، وَقَدْ يَجُوزُ الْخَفْضُ مَعَ الْفَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَبْدَأُ الْكَلَامَ بِالْفَاءِ، كَابْتِدَائِهَا بِالْوَاوِ، وَبِالْخَفْضِ كَأَنْ يَقْرَأَ: (عَالِمُ الْغَيْبِ) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَبُو عَمْرٍو، وَعَلَى خِلَافِهِ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةَ الْأَمْصَارِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا الرَّفْعُ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِجْمَاعُ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي: صِحَّتُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: {فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَارْتَفَعَ اللَّهُ وَعَلَا عَنْ شِرْكِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَوَصْفِهِمْ إِيَّاهُ بِمَا يَصِفُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ: رَبِّ إِنْ تُرِيَنِّي فِي هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مَا تَعِدُهُمْ مِنْ عَذَابِكَ، فَلَا تُهْلِكُنِي بِمَا تُهْلِكُهُمْ بِهِ، وَنَجِّنِي مِنْ عَذَابِكَ وَسُخْطِكَ، فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنِ اجْعَلْنِي مِمَّنْ رَضِيتَ عَنْهُ مِنْ أَوْلِيَائِكَ. وَقَوْلُهُ: (فَلَا تَجْعَلْنِي) جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: (إِمَّا تُرِيَنِّي) اعْتَرَضَ بَيْنَهُمَا بِالنِّدَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ جَزَاءٌ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ، لَا يُقَالُ: يَا زَيْدُ فَقُمْ، وَلَا يَا رَبُّ فَاغْفِرْ؛ لِأَنَّ النِّدَاءَ مُسْتَأْنَفٌ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بَعْدَهُ مُسْتَأْنِفٌ، لَا تَدْخُلُهُ الْفَاءُ وَالْوَاوُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِكَلَامٍ قَبْلَهُ. وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنَّا يَا مُحَمَّدُ عَلَى أَنْ نُرِيَكَ فِي هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مَا نَعِدُهُمْ مِنْ تَعْجِيلِ الْعَذَابِ لَهُمْ، لَقَادِرُونَ، فَلَا يَحْزُنَنَّكَ تَكْذِيبَهُمْ إِيَّاكَ بِمَا نَعِدُهُمْ بِهِ، وَإِنَّمَا نُؤَخِّرُ ذَلِكَ لِيَبْلُغَ الْكِتَابَ أَجَلَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوَذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ: ادْفَعْ يَا مُحَمَّدُ بِالْخَلَّةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَذَلِكَ الْإِغْضَاءُ وَالصَّفْحُ عَنْ جَهَلَةِ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّبْرُ عَلَى أَذَاهُمْ، وَذَلِكَ أَمْرُهُ إِيَّاهُ قَبْلَ أَمْرِهِ بِحَرْبِهِمْ، وَعَنَى بِالسَّيِّئَةِ: أَذَى الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُ وَتَكْذِيبَهُمْ لَهُ فِيمَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يَقُولُ لَهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: اصْبِرْ عَلَى مَا تَلْقَى مِنْهُمْ فِي ذَاتِ اللَّهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} قَالَ: أَعْرِضْ عَنْ أَذَاهُمْ إِيَّاكَ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} قَالَ: هُوَ السَّلَامُ، تُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيتَهُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلُهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا هَوْذَةُ، قَالَ: ثَنَا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} قَالَ: وَاللَّهِ لَا يُصِيبُهَا صَاحِبُهَا حَتَّى يَكْظِمَ غَيْظًا، وَيَصْفَحَ عَمَّا يَكْرَهُ. وَقَوْلُهُ: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ اللَّهَ بِهِ، وَيَنْحَلُونَهُ مِنَ الْأَكَاذِيبِ وَالْفِرْيَةِ عَلَيْهِ، وَبِمَا يَقُولُونَ فِيكَ مِنَ السُّوءِ، وَنَحْنُ مُجَازُوهُمْ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ، فَلَا يُحْزِنُكَ مَا تَسْمَعُ مِنْهُمْ مَنْ قَبِيحِ الْقَوْلِ. وَقَوْلُهُ: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوَذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ: رَبِّ أَسْتَجِيرُ بِكَ مِنْ خَنْقِ الشَّيَاطِينِ وَهَمَزَاتِهَا، وَالْهَمْزُ: هُوَ الْغَمْزُ، وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِلْهَمْزِ فِي الْكَلَامِ: هَمْزَةٌ، وَالْهَمَزَاتُ جَمْعُ هُمَزَةٍ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوَذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} قَالَ: هَمَزَاتُ الشَّيَاطِينِ: خَنْقُهُمُ النَّاسَ، فَذَلِكَ هَمَزَاتُهُمْ. وَقَوْلُهُ: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} يَقُولُ: وَقُلْ أَسْتَجِيرُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونَ فِي أُمُورِي. كَالَّذِي حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِي.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمَوْتُ، وَعَايَنَ نُزُولَ أَمْرِ اللَّهِ بِهِ، قَالَ:- لِعَظِيمِ مَا يُعَايِنُ مِمَّا يَقْدُمُ عَلَيْهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَنَدُّمًا عَلَى مَا فَاتَ، وَتَلَهُّفًا عَلَى مَا فَرَّطَ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ، مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَمَسْأَلَتِهِ لِلْإِقَالَةِ-: {رَبِّ ارْجِعُونِ} إِلَى الدُّنْيَا فَرَدُّونِي إِلَيْهَا، {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا} يَقُولُ: كَيْ أَعْمَلَ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ قَبْلَ الْيَوْمِ مِنَ الْعَمَلِ فَضَيَّعْتُهُ، وَفَرَّطْتُ فِيهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ يَقْرَأُ عَلَيْنَا: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} قَالَ مُحَمَّدٌ: إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يُرِيدُ؟ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَرْغَبُ؟ أَجَمْعُ الْمَالِ، أَوْ غَرْسُ الْغِرَاسِ، أَوْ بَنْيُ بُنْيَانٍ، أَوْ شَقُّ أَنْهَارٍ؟: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} يَقُولُ الْجَبَّارُ: كَلَّ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {رَبِّ ارْجِعُونِ} قَالَ: هَذِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، أَلَّا تَرَاهُ يَقُولُ: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} قَالَ: حِينَ تَنْقَطِعُ الدُّنْيَا، وَيُعَايِنُ الْآخِرَةَ، قَبْلَ أَنْ يَذُوقَ الْمَوْتَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَة: "إِذَا عَايَنَ الْمُؤْمِنُ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا: نُرْجِعُكَ إِلَى الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: إِلَى دَارِ الْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ؟ فَيَقُولُ: بَلْ قَدِّمَانِي إِلَى اللَّهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُقَالُ: نُرْجِعُكَ؟ فَيَقُولُ: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}»)..." الْآيَةَ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} يَعْنِي أَهْلَ الشِّرْكِ، وَقِيلَ: رَبِّ ارْجِعُونِ، فَابْتَدَأَ الْكَلَامَ بِخِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ قِيلَ: ارْجِعُونِ فَصَارَ إِلَى خِطَابِ الْجَمَاعَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَاحِدٌ. وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَسْأَلَةَ الْقَوْمِ الرَّدَّ إِلَى الدُّنْيَا إِنَّمَا كَانَتْ مِنْهُمْ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَقْبِضُونَ رُوحَهُمْ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ. وَإِنَّمَا ابْتُدِئَ الْكَلَامُ بِخِطَابِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، لِأَنَّهُمُ اسْتَغَاثُوا بِهِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى مَسْأَلَةِ الْمَلَائِكَةِ الرُّجُوعَ وَالرَّدَّ إِلَى الدُّنْيَا. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يَقُولُ: قِيلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا جَرَى عَلَى وَصْفِ اللَّهِ نَفْسَهُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} فِي غَيْرِ مَكَانٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَجَرَى هَذَا عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (كَلَّا) يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ هَذَا الْمُشْرِكُ، لَنْ يُرْجَعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَلَنْ يُعَادَ إِلَيْهَا {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} يَقُولُ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {رَبِّ ارْجِعُونِ} كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا يَقُولُ: هَذَا الْمُشْرِكُ هُوَ قَائِلُهَا. كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَقُولَهَا يَقُولُ {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} يَقُولُ: وَمِنْ أَمَامِهِمْ حَاجِزٌ يَحْجِزُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّجُوعِ، يَعْنِي: إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْبَرْزَخِ وَالْحَاجِزِ وَالْمُهْلَةِ مُتَقَارِبَاتٍ فِي الْمَعْنَى. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} يَقُولُ: أَجَلٌ إِلَى حِينٍ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} قَالَ: مَا بَعْدَ الْمَوْتِ. حَدَّثَنِي أَبُو حُمَيْدٍ الْحِمْصِيُّ أَحْمَدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: ثَنَا أَبُو حَيْوَةَ شُرَيْحُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: ثَنَا أَرْطَأَةُ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ أَبِي أُمَامَةَ فِي جِنَازَةٍ، فَلَمَّا وُضِعَتْ فِي لَحْدِهَا، قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: هَذَا {بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثَنَا مَطَرٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} قَالَ: مَا بَيْنَ الْمَوْتِ إِلَى الْبَعْثِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: {بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} قَالَ: حِجَابٌ بَيْنَ الْمَيِّتِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الدُّنْيَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلُهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} قَالَ: بَرْزَخٌ بَقِيَّةَ الدُّنْيَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلُهُ. حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} قَالَ: الْبَرْزَخُ مَا بَيْنَ الْمَوْتِ إِلَى الْبَعْثِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ: الْبَرْزَخُ: مَا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} مِنَ النَّفْخَتَيْنِ أَيَّتُهُمَا عُنِيَ بِهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهَا النَّفْخَةُ الْأُولَى.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا حَكَّامُ بْنُ سِلْمٍ، قَالَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ مُطْرِّفٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ}... الْآيَةَ، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} فَقَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} فَذَلِكَ فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى، فَلَا يَبْقَى عَلَى الْأَرْضِ شَيْءٌ {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} فَإِنَّهُمْ لَمَّا دَخَلُوا الْجَنَّةَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} قَالَ: فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى. حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} فَذَلِكَ حِينَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَلَا حَيَّ يَبْقَى إِلَّا اللَّهُ {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} فَذَلِكَ إِذَا بُعِثُوا فِي النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَمَعْنَى ذَلِكَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ، فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَتَوَاصَلُونَ بِهَا، وَلَا يَتَسَاءَلُونَ، وَلَا يَتَزَاوَرُونَ، فَيَتَسَاءَلُونَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ هَارُونَ بْنِ أَبِي وَكِيعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ زَاذَانَ يَقُولُ: أَتَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ فِي دَارِهِ، فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَى مَجْلِسٍ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مِنْ أَجْلِ أَنِّي رَجُلٌ مِنَ الْعَجَمِ تَحْقِرُنِي؟ قَالَ: ادْنُ! قَالَ: فَدَنَوْتُ، فَلَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ جَلِيسٌ، فَقَالَ: يُؤْخَذُ بِيَدِ الْعَبْدِ أَوِ الْأَمَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، قَالَ: وَيُنَادِي مُنَادٍ: أَلَا إِنَّ هَذَا فُلَانٌ ابْنُ فُلَانٍ، فَمَنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ قِبَلَهُ فَلْيَأْتِ إِلَى حَقِّهِ، قَالَ: فَتَفْرَحُ الْمَرْأَةُ يَوْمَئِذٍ أَنْ يَكُونَ لَهَا حَقٌّ عَلَى ابْنِهَا، أَوْ عَلَى أَبِيهَا، أَوْ عَلَى أَخِيهَا، أَوْ عَلَى زَوْجِهَا {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ زَاذَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: يُؤْخَذُ الْعَبْدُ أَوِ الْأَمَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُنْصَبُ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ، وَزَادَ فِيهِ: فَيَقُولُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْعَبْدِ: أَعْطِ هَؤُلَاءِ حُقُوقَهُمْ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، فَنِيَتِ الدُّنْيَا، فَمِنْ أَيْنَ أُعْطِيهِمْ؟ فَيَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ: خُذُوا مِنْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ وَأَعْطُوا لِكُلِّ إِنْسَانٍ بِقَدْرِ طَلَبَتِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلُ مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ضَاعَفَهَا اللَّهُ لَهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ بِهَا الْجَنَّةَ، ثُمَّ تَلَا ابْنُ مَسْعُودٍ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} وَإِنْ كَانَ عَبْدًا شَقِيًّا، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: رَبَّنَا، فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ وَبَقِيَ طَالِبُونَ كَثِيرٌ، فَيَقُولُ: خُذُوا مِنْ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ فَأَضِيفُوهَا إِلَى سَيِّئَاتِهِ، وَصُكُّوا لَهُ صَكًّا إِلَى النَّارِ. قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} قَالَ: لَا يَسْأَلُ أَحَدٌ يَوْمَئِذٍ بِنِسَبٍ شَيْئًا، وَلَا يَتَسَاءَلُونَ، وَلَا يَمُتُّ إِلَيْهِ بِرَحِمٍ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَى الْإِنْسَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَنْ يَرَى مَنْ يَعَافُهُ، مَخَافَةَ أَنْ يَذُوبَ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، ثُمَّ قَرَأَ {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}. قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا الْحَكَمُ بْنُ سِنَانٍ، عَنْ سُدُوسٍ صَاحِبِ السَّائِرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، نَادَى مُنَادٍ مِنْ أَهْلِ الْعَرْشِ: يَا أَهْلَ التَّظَالُمِ تَدَارَكُوا مَظَالِمَكُمْ، وَادْخُلُوا الْجَنَّة».".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} مَوَازِينُ حَسَنَاتِهِ، وَخَفَّتْ مَوَازِينُ سَيِّئَاتِهِ {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} يَعْنِي: الْخَالِدُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} يَقُولُ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُ حَسَنَاتِهِ فَرَجَحَتْ بِهَا مَوَازِينُ سَيِّئَاتِهِ {فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} يَقُولُ: غَبَنُوا أَنْفُسَهُمْ حُظُوظَهَا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ {فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} يَقُولُ: هُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ. وَقَوْلُهُ: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} يَقُولُ: تَسْفَعُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ. كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} قَالَ: تَنْفَحُ {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} وَالْكُلُوحُ: أَنْ تَتَقَلَّصَ الشَّفَتَانِ عَنِ الْأَسْنَانِ، حَتَّى تَبْدُوَ الْأَسْنَانُ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: وَلَهُ الْمُقِْدَمُ لَا مِثِْلَ لَهُ *** سَاعَةَ الشِّدْقِ عَنِ النَّابِ كَلَحْ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: يَسْفَعُ وُجُوهَهُمْ لَهَبُ النَّارِ فَتَحْرُقُهَا، وَهُمْ فِيهَا مُتَقَلِّصُو الشِّفَاهِ عَنِ الْأَسْنَانِ؛ مِنْ إِحْرَاقِ النَّارِ وُجُوهَهُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} يَقُولُ: عَابِسُونَ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَا ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، فِي قَوْلِهِ: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} قَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الرَّأْسِ الْمُشَيَّطِ قَدْ بَدَتْ أَسْنَانُهُ، وَقَلَصُتْ شَفَتَاهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ}... الْآيَةَ، قَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الرَّأْسِ الْمُشَيَّطِ بِالنَّارِ، وَقَدْ قَلَّصَتْ شَفَتَاهُ وَبَدَتْ أَسْنَانُهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} قَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْغَنَمِ إِذَا مَسَّتِ النَّارُ وُجُوهَهَا كَيْفَ هِيَ؟.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يُقَالُ لَهُمْ {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} يَعْنِي آيَاتِ الْقُرْآنِ تُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا {فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} وَتَرَكَ ذُكِرَ يُقَالُ؛ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا}. اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ: {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} بِكَسْرِ الشِّينِ، وَبِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ: "شَقَاوَتُنَا" بِفَتْحِ الشِّينِ وَالْأَلِفِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَقَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عُلَمَاءٌ مِنَ الْقُرَّاءِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: قَالُوا: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا مَا سَبَقَ لَنَا فِي سَابِقِ عِلْمِكَ وَخُطَّ لَنَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} قَالَ: الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْنَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْنَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلُهُ. وَقَالَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: بَلَغَنَا أَنَّ أَهْلَ النَّارِ نَادَوْا خَزَنَةَ جَهَنَّمَ: أَنِ {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} فَلَمْ يُجِيبُوهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ فَلَمَّا أَجَابُوهُمْ بَعْدَ حِينٍ قَالُوا: {فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} قَالَ: ثُمَّ نَادَوْا مَالِكًا {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} فَسَكَتَ عَنْهُمْ مَالِكٌ خَازِنُ جَهَنَّمَ، أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ أَجَابَهُمْ فَقَالَ: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} ثُمَّ نَادَى الْأَشْقِيَاءُ رَبَّهُمْ، فَقَالُوا: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} فَسَكَتَ عَنْهُمْ مِثْلَ مِقْدَارِ الدُّنْيَا، ثُمَّ أَجَابَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}. قَالَ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: يُنَادِي أَهْلُ النَّارِ أَهْلَ الْجَنَّةِ فَلَا يُجِيبُونَهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُقَالُ: أَجِيبُوهُمْ، وَقَدْ قَطَّعَ الرَّحِمَ وَالرَّحْمَةَ، فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ النَّارِ، عَلَيْكُمْ غَضَبُ اللَّهِ، يَا أَهْلَ النَّارِ، عَلَيْكُمْ لَعْنَةُ اللَّهِ، يَا أَهْلَ النَّارِ، لَا لَبَّيْكُمْ وَلَا سَعْدَيْكُمْ، مَاذَا تَقُولُونَ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ نَكُ فِي الدُّنْيَا آبَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ وَعَشِيرَتَكُمْ، فَيَقُولُونَ: بَلَى، فَيَقُولُونَ: {أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}. قَالَ ثَنِي حَجَّاجٌ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: ثَنِي عَبْدَةُ الْمَرُوزِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ، زَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: بَلَغَنِي، أَوْ ذُكِرَ لِي، أَنَّ أَهْلَ النَّارِ اسْتَغَاثُوا بِالْخَزَنَةِ، ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفُ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ، فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ مَا قَالَ اللَّهُ، فَلَمَّا أَيِسُوا نَادَوْا: يَا مَالِكُ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ، وَلَهُ مَجْلِسٌ فِي وَسَطِهَا، وَجُسُورٌ تَمُرُّ عَلَيْهَا مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَهُوَ يَرَى أَقْصَاهَا كَمَا يَرَى أَدْنَاهَا، فَقَالُوا: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} سَأَلُوا الْمَوْتَ، فَمَكَثَ لَا يُجِيبُهُمْ ثَمَانِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِنْ سِنِي الْآخِرَةِ، أَوْ كَمَا قَالَ، ثُمَّ انْحَطَّ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ قَالُوا: فَاصْبِرُوا، فَلَعَلَّ الصَّبْرَ يَنْفَعُنَا، كَمَا صَبَرَ أَهْلُ الدُّنْيَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، قَالَ: فَصَبَرُوا، فَطَالَ صَبْرُهُمْ، فَنَادَوْا {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} أَيْ مَنْجَى. فَقَامَ إِبْلِيسُ عِنْدَ ذَلِكَ فَخَطَبَهُمْ، فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} فَلَمَّا سَمِعُوا مَقَالَتَهُ، مَقَتُوا أَنْفُسَهُمْ، قَالَ: فَنُودُوا {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا} الْآيَةَ، قَالَ: فَيُجِيبُهُمُ اللَّهُ {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} قَالَ: فَيَقُولُونَ: مَا أَيِسْنَا بَعْدُ؛ قَالَ: ثُمَّ دَعَوْا مَرَّةً أُخْرَى، فَيَقُولُونَ: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} قَالَ: فَيَقُولُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} يَقُولُ الرَّبُّ: لَوْ شِئْتُ لَهَدَيْتُ النَّاسَ جَمِيعًا، فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ أَحَدٌ {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} يَقُولُ: بِمَا تَرَكْتُمْ أَنْ تَعْمَلُوا لِيَوْمِكُمْ هَذَا {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} أَيْ تَرَكْنَاكُمْ {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} قَالَ: فَيَقُولُونَ: مَا أَيِسْنَا بَعْدُ، قَالَ: فَيَدْعُونَ مَرَّةً أُخْرَى: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} قَالَ: فَيُقَالُ لَهُمْ: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}... الْآيَةَ، قَالَ: فَيَقُولُونَ: مَا أَيِسْنَا بَعْدُ ثُمَّ قَالُوا مَرَّةً أُخْرَى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} قَالَ: فَيَقُولُ: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} إِلَى: (نَصِيرٍ)، ثُمَّ مَكَثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نَادَاهُمْ: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} فِلْمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ قَالُوا: الْآنَ يَرْحَمُنَا، فَقَالُوا عِنْدَ ذَلِكَ: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} أَيْ: الْكِتَابُ الَّذِي كُتِبَ عَلَيْنَا {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} الْآيَةَ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} قَالَ: فَلَا يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا أَبَدًا، فَانْقَطَعَ عِنْدَ ذَلِكَ الدُّعَاءُ وَالرَّجَاءُ مِنْهُمْ. وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ يَنْبَحُ فِي وَجْهِ بَعْضٍ، فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فِي حَدِيثِهِ: فَحَدَّثَنِي الْأَزْهَرُ بْنُ أَبِي الْأَزْهَرِ أَنَّهُ قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ قَالَ: فَوَالَّذِي أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَالتَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَالْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى، مَا تَكَلَّمَ أَهْلُ النَّارِ كَلِمَةً بَعْدَهَا إِلَّا الشَّهِيقَ وَالزَّعِيقَ فِي الْخُلْدِ أَبَدًا، لَيْسَ لَهُ نَفَادٌ. قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، قَالَ: كُنَّا فِي جِنَازَةٍ وَمَعَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الْقَارِئُ، فَجَلَسْنَا، فَتَنَحَّى أَبُو جَعْفَرٍ، فَبَكَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا جَعْفَرٍ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ لَا يَتَنَفَّسُونَ. وَقَوْلُهُ: {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} يَقُولُ: كُنَّا قَوْمًا ضَلَلْنَا عَنْ سَبِيلِ الرَّشَادِ، وَقَصْدِ الْحَقَّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ الَّذِينَ خَفَّتْ مَوَازِينُ صَالِحِ أَعْمَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي جَهَنَّمَ: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنَ النَّارِ، فَإِنَّ عُدْنَا لِمَا تَكْرَهُ مِنَّا مِنْ عَمَلٍ، فَإِنَّا ظَالِمُونَ. وَقَوْلُهُ: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ الرَّبُّ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُجِيبًا {اخْسَئُوا فِيهَا} أَيْ: اقْعُدُوا فِي النَّارِ، يُقَالُ مِنْهُ: خَسَأْتُ فُلَانًا أَخْسَؤُهُ خَسْأً وَخُسُوءًا، وَخَسِيءٌ هُوَ يَخْسَأُ، وَمَا كَانَ خَاسِئًا، وَلَقَدْ خَسِئَ، (وَلَا تُكَلِّمُونِ) فَعِنْدَ ذَلِكَ أَيِسَ الْمَسَاكِينُ مِنَ الْفَرَجِ، وَلَقَدْ كَانُوا طَامِعِينَ فِيهِ. كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيلٍ، قَالَ: ثَنِي أَبُو الزَّعْرَاءِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، فِي قِصَّةٍ ذَكَرَهَا فِي الشَّفَاعَةِ، قَالَ: فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَلَّا يُخْرِجَ مِنْهَا، يَعْنِي مِنَ النَّارِ أَحَدًا، غَيَّرَ وُجُوهَهُمْ وَأَلْوَانَهَا، فَيَجِيءُ الرَّجُلُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَيُشَفَّعُ فِيهِمْ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: مَنْ عَرَفَ أَحَدًا فَلْيُخْرِجْهُ؛ قَالَ: فَيَجِيءُ الرَّجُلُ فَيَنْظُرُ فَلَا يَعْرِفُ أَحَدًا، فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ يَا فُلَانُ، فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ. فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُونَ: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ فَيَقُولُ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ؛ انْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ جَهَنَّمُ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا بَشَرٌ. حَدَّثَنَا تَمِيمُ بْنُ الْمُنْتَصِرِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ مَعْدِي كَرِبَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: يُرْسِلُ أَوْ يَصُبُّ عَلَى أَهْلِ النَّارِ الْجُوعُ، فَيَعْدِلُ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، فَيَسْتَغِيثُونَ، فَيُغَاثُونَ بِالضَّرِيعِ، الَّذِي لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ، فَلَا يُغْنِي ذَلِكَ عَنْهُمْ شَيْئًا فَيَسْتَغِيثُونَ، فَيُغَاثُونَ بِطَعَامٍ ذِي غُصَّةٍ، فَإِذَا أَكَلُوهُ نَشِبَ فِي حُلُوقِهِمْ، فَيَذْكُرُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَحْدِرُونَ الْغُصَّةَ بِالْمَاءِ، فَيَسْتَغِيثُونَ، فَيُرْفَعُ إِلَيْهِمُ الْحَمِيمَ فِي كَلَالِيبِ الْحَدِيدِ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى وُجُوهِهِمْ شَوَى وُجُوهَهُمْ، فَإِذَا شَرِبُوهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ، قَالَ: فَيُنَادُونَ مَالِكًا: لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ، قَالَ: فَيَتْرُكُهُمْ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يُجِيبُهُمْ: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ، قَالَ: فَيُنَادُونَ خَزَنَةَ جَهَنَّمَ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} {قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ {قَالَ: فَيَقُولُونَ مَا نَجِدُ أَحَدًا خَيْرًا لَنَا مِنْ رَبِّنَا، فَيُنَادُونَ رَبَّهُمْ (} رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ {) قَالَ: فَيَقُولُ اللَّهُ: (} اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ يَئِسُوا مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، فَيَدْعُونَ بِالْوَيْلِ وَالشَّهِيقِ وَالثُّبُورِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الْأَسَدِيُّ، قَالَ: ثَنَا عَاصِمُ بْنُ يُوسُفَ الْيَرْبُوعِيُّ، قَالَ: ثَنَا قُطْبَةُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْأَسَدِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْأُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُلْقَى عَلَى أَهْلِ النَّارِ الْجُوعُ... " ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوًا مِنْهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: يَرَى أَهْلُ النَّارِ فِي كُلِّ سَبْعِينَ عَامًا سَاقَ مَالِكٍ، خَازِنِ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} فَيُجِيبُهُمْ بِكَلِمَةٍ، ثُمَّ لَا يَرَوْنَهُ سَبْعِينَ عَامًا فَيَسْتَغِيثُونَ بِالْخَزَنَةِ، فَيَقُولُونَ لَهُمْ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} فَيُجِيبُونَهُمْ {أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}...) الْآيَةَ. فَيَقُولُونَ: ادْعُوا رَبَّكُمْ، فَلَيْسَ أَحَدٌ أَرْحَمَ مِنْ رَبِّكُمْ، فَيَقُولُونَ: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} قَالَ: فَيُجِيبُهُمْ،: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} فَعِنْدَ ذَلِكَ يَيْأَسُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَيَأْخُذُونَ فِي الشَّهِيقِ وَالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُمْ يُنَادُونَ مَالِكًا فَيَقُولُونَ {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} فَيَسْكُتُ عَنْهُمْ قَدْرَ أَرْبَعِينَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَقُولُ: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} قَالَ: ثُمَّ يُنَادُونَ رَبَّهُمْ، فَيَسْكُتُ عَنْهُمْ قَدْرَ الدُّنْيَا مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُ: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} قَالَ: فَيَيْأَسُ الْقَوْمُ فَلَا يَتَكَلَّمُونَ بَعْدَهَا كَلِمَةً، وَكَانَ إِنَّمَا هُوَ الزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ، قَالَ قَتَادَةُ: صَوْتُ الْكَافِرِ فِي النَّارِ مِثْلُ صَوْتِ الْحِمَارِ، أَوَّلُهُ زَفِيرٌ، وَآخِرُهُ شَهِيقٌ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلُهُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى، قَالَ: أَخْبَرَنِي زِيَادٌ الْخُرَاسَانِيُّ، قَالَ: أَسْنَدَهُ إِلَى بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَنَسِيتُهُ، فِي قَوْلِهِ: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} قَالَ: فَيَسْكُتُونَ، قَالَ: فَلَا يُسْمَعُ فِيهَا حِسٌّ إِلَّا كَطَنِيْنِ الطَّسْتِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} هَذَا قَوْلُ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، حِينَ انْقَطَعَ كَلَامُهُمْ مِنْهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (إِنَّهُ) وَهَذِهِ الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ "إِنَّهُ" هِيَ الْهَاءُ الَّتِي يُسَمِّيهَا أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ الْمَجْهُولَةَ، وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعْنَاهَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ. وَمَعْنَى دُخُولِهَا فِي الْكَلَامِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ {كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي} يَقُولُ: كَانَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ عِبَادِي، وَهُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، يَقُولُونَ فِي الدُّنْيَا: (رَبَّنَا آمَنَّا) بِكَ وَبِرُسُلِكَ، وَمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ عِنْدِكَ (فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا) وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْ رَحِمَ أَهْلَ الْبَلَاءِ، فَلَا تُعَذِّبْنَا بِعَذَابِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَاتَّخَذْتُمْ أَيُّهَا الْقَائِلُونَ لِرَبِّكُمْ {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} فِي الدُّنْيَا، الْقَائِلِينَ فِيهَا: {رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} سُخْرِيًّا. وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي قَوْلِهِ: {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ} مِنْ ذِكْرِ الْفَرِيقِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: (سُخْرِيًّا) فَقَرَأَهُ بَعْضُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} بِكَسْرِ السِّينِ، وَيَتَأَوَّلُونَ فِي كَسْرِهَا أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ الْهَزْءُ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهَا إِذَا ضُمَّتْ فَمَعْنَى الْكَلِمَةِ: السُّخْرَةُ وَالِاسْتِعْبَادُ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ: فَاتَّخَذْتُمْ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِي فِي الدُّنْيَا هُزُؤًا وَلَعِبًا، تَهْزَءُونَ بِهِمْ، حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ: {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} بِضَمِّ السِّينِ، وَقَالُوا: مَعْنَى الْكَلِمَةِ فِي الضَّمِّ وَالْكَسْرِ وَاحِدٌ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ عَنِ الْعَرَبِ سَمَاعًا لِجِّيٍّ وَلُجِّيٍّ، ودِرِّيٌّ، ودُرِّيٌّ، مَنْسُوبٌ إِلَى الدُّرِّ، وَكَذَلِكَ كِرْسِيٌّ وَكُرْسِيٌّ؛ وَقَالُوا ذَلِكَ مِنْ قَيْلِهِمْ كَذَلِكَ، نَظِيرَ قَوْلِهِمْ فِي جَمْعِ الْعَصَا: الْعِصِيُّ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَالْعُصِيُّ بِضَمِّهَا؛ قَالُوا: وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الضَّمَّ فِي السِّخْرِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَفْصَحُ اللُّغَتَيْنِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَلُغَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عُلَمَاءُ مِنَ الْقُرَّاءِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ ذَلِكَ فَمُصِيبٌ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ مَنْ فَرَّقٍ بَيْنَ مَعْنَى ذَلِكَ إِذَا كُسِرَتِ السِّينُ وَإِذَا ضُمَّتْ؛ لِمَا ذَكَرْتُ مِنَ الرِّوَايَةِ عَمَّنْ سَمِعَ مِنَ الْعَرَبِ مَا حَكَيْتُ عَنْهُ. ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِهِ عَنْ بَعْضِ مَنْ فَرَّقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَعْنَاهُ مَكْسُورَةً سِينُهُ وَمَضْمُومَةً. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} قَالَ: هُمَا مُخْتَلِفَتَانِ: سِخْرِيًّا، وَسُخْرِيًّا، يَقُولُ اللَّهُ: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سِخْرِيًّا} قَالَ: هَذَا سِخْرِيًّا: يُسَخِّرُونَهُمْ، وَالْآخَرُونَ: الَّذِينَ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ هُمْ سُخْرِيًّا، فَتِلْكَ سِخْرِيًّا يُسَخِّرُونَهُمْ عِنْدَكَ، فَسَخَّرَكَ رَفَعَكَ فَوْقَهُ، وَالْآخَرُونَ: اسْتَهْزَءُوا بِأَهْلِ الْإِسْلَامِ هِيَ: سُخْرِيًّا يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ. فَهُمَا مُخْتَلِفَتَانِ. وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} وَقَالَ: يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ كَمَا سَخِرَ قَوْمُ نُوحٍ بِنُوحٍ، اتَّخَذُوهُمْ سُخْرِيًّا: اتَّخَذُوهُمْ هُزُؤًا، لَمْ يَزَالُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ. وَقَوْلُهُ: {حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي} يَقُولُ: لَمْ يَزَلِ اسْتِهْزَاؤُكُمْ بِهِمْ، أَنْسَاكُمْ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِكُمْ بِهِمْ ذِكْرِي، فَأَلْهَاكُمْ عَنْهُ {وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ}. كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي} قَالَ: أَنْسَى هَؤُلَاءِ اللَّهَ اسْتِهْزَاؤُهُمْ بِهِمْ، وَضَحِكُهُمْ بِهِمْ، وَقَرَأَ: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} حَتَّى بَلَغَ: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ}. وَقَوْلُهُ: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنِّي أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ الْمُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ، جَزَيْتُ الَّذِينَ اتَّخَذْتُمُوهُمْ فِي الدُّنْيَا سُخْرِيًّا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِي، وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ الْيَوْمَ، بِمَا صَبَرُوا عَلَى مَا كَانُوا يَلْقَوْنَ بَيْنَكُمْ مِنْ أَذَى سُخْرِيَتِكُمْ وَضَحِكِكُمْ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}. اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ: "إِنَّهُمْ" فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَبَعْضُ أَهْلُ الْكُوفَةِ: "أَنَّهُمْ " بِفَتْحِ الْأَلِفِ مِنْ "أَنَّهُمْ" بِمَعْنَى: جِزْيَتُهُمْ هَذَا، فَأَنَّ فِي قِرَاءَةِ هَؤُلَاءِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، بِوُقُوعِ قَوْلِهِ جِزْيَتُهُمْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُمْ: إِنِّي جِزْيَتُهُمُ الْيَوْمَ الْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ؛ وَقَدْ يَحْتَمِلُ النَّصْبَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُوَجَّهًا مَعْنَاهُ: إِلَى أَنِّي جِزْيَتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ بِمَا صَبَرُوا فِي الدُّنْيَا، عَلَى مَا لَقُوا فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: "إِنِّي" بِكَسْرِ الْأَلِفِ مِنْهَا، بِمَعْنَى الِابْتِدَاءِ، وَقَالُوا: ذَلِكَ ابْتِدَاءٌ مِنَ اللَّهِ مَدْحُهُمْ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: "جَزَيْتُهُمْ "، قَدْ عَمِلَ فِي الْهَاءِ وَالْمِيمِ، وَالْجَزَاءُ إِنَّمَا يَعْمَلُ فِي مَنْصُوبَيْنِ، وَإِذَا عَمِلَ فِي الْهَاءِ وَالْمِيمِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْعَمَلُ فِي "أَنْ" فَيَصِيرُ عَامِلًا فِي ثَلَاثَةٍ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ التَّكْرِيرَ، فَيَكُونُ نَصْبُ "أَنَّ" حِينَئِذٍ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، لَا بِقَوْلِهِ: جِزْيَتُهُمْ، وَإِنْ هِيَ نُصِبَتْ بِإِضْمَارِ لَامٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَيْضًا كَبِيرُ مَعْنًى؛ لِأَنَّ جَزَاءَ اللَّهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ صَالِحِ أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَجَزَاؤُهُ إِيَّاهُمْ، وَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ هُوَ الْفَوْزُ، فَلَا مَعْنَى لِأَنْ يَشْرُطُ لَهُمُ الْفَوْزَ بِالْأَعْمَالِ ثُمَّ يُخْبِرُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا فَازُوا، لِأَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذْ كَانَ الصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ مَا ذَكَرْنَا: إِنِّي جِزْيَتُهُمُ الْيَوْمَ الْجَنَّةَ بِمَا صَبَرُوا فِي الدُّنْيَا عَلَى أَذَاكُمْ بِهَا فِي أَنَّهُمُ الْيَوْمَ هُمُ الْفَائِزُونَ بِالنَّعِيمِ الدَّائِمِ وَالْكَرَامَةِ الْبَاقِيَةِ أَبَدًا؛ بِمَا عَمِلُوا مِنْ صَالِحَاتِ الْأَعْمَالِ فِي الدُّنْيَا، وَلَقُوا فِي طَلَبِ رِضَايَ مِنَ الْمَكَارِهِ فِيهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ}. اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} وَفِي قَوْلِهِ: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ)، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ}. وَوَجَّهَ هَؤُلَاءِ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِهَؤُلَاءِ الْأَشْقِيَاءِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَهُمْ فِي النَّارِ: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ}؟ وَأَنَّهُمْ أَجَابُوا اللَّهَ فَقَالُوا: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}، فَنَسِيَ الْأَشْقِيَاءُ؛ لِعَظِيمِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْعَذَابِ مُدَّةَ مُكْثِهِمُ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا، وَقَصُرَ عِنْدَهُمْ أَمَدُ مُكْثِهِمُ الَّذِي كَانَ فِيهَا؛ لِمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ نِقْمَةِ اللَّهِ، حَتَّى حَسِبُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَكَثُوا فِيهَا إِلَّا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. وَلَعَلَّ بَعْضَهُمْ كَانَ قَدْ مَكَثَ فِيهَا الزَّمَانَ الطَّوِيلَ، وَالسِّنِينَ الْكَثِيرَةَ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ لَهُمْ بِالْقَوْلِ، كَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: قُولُوا كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ؟ وَأُخْرِجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ الْأَمْرِ لِلْوَاحِدِ، وَالْمَعْنِيُّ بِهِ الْجَمَاعَةُ، إِذْ كَانَ مَفْهُومَا مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ مَنِ اخْتَارَهَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَصَاحِفِهِمْ: "قُلْ" بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَفِي غَيْرِ مَصَاحِفِهِمْ بِالْأَلِفِ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ) عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ، لِأَنَّ وَجْهَ الْكَلَامِ لَوْ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا، أَنْ يَكُونَ قُولُوا عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ لِلْجَمْعِ؛ لَأَنَّ الْخِطَابَ فِيمَا قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ، جَرَى لِجَمَاعَةِ أَهْلِ النَّارِ، فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ قُولُوا لَوْ كَانَ الْكَلَامُ جَاءَ عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ جَائِزًا، أَعْنِي التَّوْحِيدَ، لِمَا بَيَّنْتُ مِنَ الْعِلَّةِ لِقَارِئِ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَجَاءَ الْكَلَامُ بِالتَّوْحِيدِ فِي قِرَاءَةِ جَمِيعِ الْقُرَّاءِ، كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ قِرَاءَةَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنِ الْوَاحِدِ أَشْبَهُ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْفَصِيحُ الْمَعْرُوفُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ ذَلِكَ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: قَالَ اللَّهُ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ عَدَدِ سِنِينَ؟ قَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ: لَبِثْنَا فِيهَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ، لِأَنَّا لَا نَدْرِي، قَدْ نَسِينَا ذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِالْعَادِّينَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ، وَيُحْصُونَ عَلَيْهِمْ سَاعَاتِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} قَالَ: الْمَلَائِكَةُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُمُ الْحُسَّابُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} قَالَ: فَاسْأَلِ الْحُسَّابَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} قَالَ: فَاسْأَلْ أَهْلَ الْحِسَابِ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، أَنْ يُقَالَ كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} وَهُمُ الَّذِينَ يَعُدُّونَ عَدَدَ الشُّهُورِ وَالسِّنِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا الْمَلَائِكَةَ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا بَنِي آدَمَ وَغَيْرِهِمْ، وَلَا حُجَّةَ بِأَيِّ ذَلِكَ مِنْ أَيِّ ثَبَتَتْ صِحَّتُهَا، فَغَيْرُ جَائِزٍ تَوْجِيهُ مَعْنَى ذَلِكَ إِلَى بَعْضِ الْعَادِّينَ دُونَ بَعْضٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}. اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} اخْتِلَافُهُمْ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ) وَالْقَوْلُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، نَحْوَ الْقَوْلِ الَّذِي بَيَّنَاهُ قَبْلُ فِي قَوْلِهِ: (كَمْ لَبِثْتُمْ) وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى قِرَاءَتِنَا: قَالَ اللَّهُ لَهُمْ: مَا لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا يَسِيرًا، لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قَدْرَ لُبْثِكُمْ فِيهَا. وَقَوْلُهُ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَفَحَسِبْتُمْ أَيُّهَا الْأَشْقِيَاءُ أَنَا إِنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ إِذْ خَلَقْنَاكُمْ، لَعِبًا وَبَاطِلًا وَأَنَّكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ بَعْدَ مَمَاتِكُمْ لَا تَصِيرُونَ أَحْيَاءً، فَتُجْزَوْنَ بِمَا كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا تَعْمَلُونَ؟. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَهُ بَعْضُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ: (لَا تُرْجَعُونَ) بِضَمِّ التَّاءِ: لَا تُرَدُّونَ، وَقَالُوا: إِنَّمَا هُوَ مِنْ مَرْجِعِ الْآخِرَةِ، لَا مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الدُّنْيَا، وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ "لَا تَرْجِعُونَ" وَقَالُوا: سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَرْجِعُ الْآخِرَةِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الدُّنْيَا. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ مَنْ رَدَّهُ اللَّهُ إِلَى الْآخِرَةِ مِنَ الدُّنْيَا بَعْدَ فَنَائِهِ، فَقَدْ رَجَعَ إِلَيْهَا، وَأَنَّ مَنْ رَجَعَ إِلَيْهَا، فَبِرَدِّ اللَّهِ إِيَّاهُ إِلَيْهَا رَجَعَ. وَهُمَا مَعَ ذَلِكَ قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عُلَمَاءُ مِنَ الْقُرَّاءِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} قَالَ: بَاطِلًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ، مِنْ أَنَّ لَهُ شَرِيكًا، وَعَمَّا يُضِيفُونَ إِلَيْهِ مِنَ اتِّخَاذِ الْبَنَاتِ (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) يَقُولُ: لَا مَعْبُودَ تَنْبَغِي لَهُ الْعُبُودَةُ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمُ} وَالرَّبُّ: مَرْفُوعٌ بِالرَّدِّ عَلَى الْحَقِّ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ، رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَنْ يَدَعُ مَعَ الْمَعْبُودِ الَّذِي لَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ مَعْبُودًا آخَرَ، لَا حُجَّةَ لَهُ بِمَا يَقُولُ، وَيَعْمَلُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا بَيِّنَةَ. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} قَالَ: بَيِّنَةٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} قَالَ: حُجَّةٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} قَالَ: لَا حُجَّةَ. وَقَوْلُهُ: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} يَقُولُ: فَإِنَّمَا حِسَابُ عَمَلِهِ السَّيِّئِ عِنْدَ رَبِّهِ وَهُوَ مُوَفِّيهِ جَزَاءَهُ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَنْجَحُ أَهْلُ الْكُفْرِ بِاللَّهِ عِنْدَهُ وَلَا يُدْرِكُونَ الْخُلُودَ وَالْبَقَاءَ فِي النَّعِيمِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ: رَبِّ اسْتُرْ عَلَيَّ ذُنُوبِي بِعَفْوِكَ عَنْهَا، وَارْحَمْنِي بِقَبُولِ تَوْبَتِكَ، وَتَرْكِكَ عِقَابِي عَلَى مَا اجْتَرَمْتُ {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} يَقُولُ: وَقُلْ: أَنْتَ يَا رَبِّ خَيْرُ مَنْ رَحِمِ ذَا ذَنْبٍ، فَقَبِلَ تَوْبَتَهُ، وَلَمْ يُعَاقِبْهُ عَلَى ذَنْبِهِ. آخَرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ
|